دروس السياسة المُرَّةْ … يوم احتفل الإرهابي بعيد ميلاده

قبل سبعة عشر عاما قبيل الفجر استفقت على صوت قرع شديد على باب المنزل، استيقظت زوجتي جزعة، قلت لها جاؤوا لاعتقالي، وبينما ذهبت زوجتي لفتح الباب الذي كان يطرق بشدة سارعت لارتداء ملابس كنت قد اخترتها في ذهني سابقا حتى لا أغادر بملابسي الداخلية، كنت قد توقعت هذه اللحظة ورسمت السيناريو في ذهني في أيام سابقة وبدأت فورا بتطبيقه فالثواني لها قيمة، في طريقي إلى الصالون حيث دخل ما يقارب الخمسة مسلحين دون استئذان عرجت بسرعة على غرفة نوم ابتني ذات السبع سنوات وابني ذو التسعة سنوات، عانقتهم وقبلتهم وهم مستغرقين في أحلامهم منتظرين رحلة “المشي في الجبال” في الجمعة القادمة التي كنا نخطط لها بعد أن قاموا بالرحلة الأولى لهم قبلها بفترة قصيرة، رحلة كانت الأولى والأخيرة ولا زالت في أذهانهم وقد باتوا على ابواب بناء عائلة خاصة، خرجت إلى الصالون بسرعة قبل أن يتابع المسلحون المرتدين الزي المدني “اقتحامهم” إلى باقي المنزل، كانت زوجتي تحمل طفلنا الذي قارب العام وقد استيقظ وبدأ بالبكاء وهو الضاحك دائما فقد كان هناك أمر غريب يحصل، سألني شخص عرف عن رتبته على انها “مقدم” دون أن يذكر الجهة التي يتبعها، تصرف بلطف، أكدت له شخصيتي فطلب مني اصطحاب هويتي، قال أن “وزير الداخلية يرغب بشرب فنجان قهوة معي”، ابتسمت وقلت وهل “خرم” على ذلك في هذا الوقت؛ “قل إنكم قد جئتم لاعتقالي” … التفت إلى زوجتي مطمئناً “سيعود صباحا هو فنجان قهوة”، أجابته “فقط لخمس دقائق” مستذكرة رواية بنفس العنوان، ابتسمت في سري وأنا أستذكر هذه العبارة التي تكررت غالبا مئات آلاف المرات والمحظوظ من هؤلاء عاد بعد أشهر وربما سنوات لكن عشرات الآلاف لم يعودوا أبدا.
تركت زوجتي وهي تحمل أملا بعودتي وهو الأمل الذي كنت أدرك أنه أمل كاذب لكني حاولت إبقاءه حيا فيها على مدى قارب الخمس سنوات فهذا الأمل هو الذي كان يمدها بالصبر في تلك الفترة، تلك الفترة التي بدأ فيها الوريث رأس النظام يكشف شخصيته، لقد أعطى الكثير من الوعود لإطلاق سراحي مع باقي مجموعة “ربيع دمشق” وأخلف بها جميعا “ولحس كلامه” كان ذلك الاختبار الأهم لذي دل على أحد جوانب شخصيته التي يخفيها وراء أقنعة كثيرة لم يبقى منها شيء اليوم، وبالمناسبة لا يوجد سياسي دولي يثق بكلمة منه فالجميع يقول عنه “كذاب لا كلمة له” وهي صفةٌ تدل على قاطع طريق لا دكتاتور يلتزم عادة بكلمته.
احتضنت وقبلت طفلي وزوجتي التي قالت لي وأنا خارج “لا إله إلا الله” فأجبتها “محمد رسول الله”، خرجت من الباب وأنا أتساءل كم سنة سيستغرق الأمر حتى أدخله ثانية، كان هناك سيارتين ممتلئتين بالمسلحين تنتظران، وُضِعْت أنا في إحداها في المقعد الخلفي بين مسلحين اثنين، وُضِعَتْ عصابة على عيني، وضعوا رأسي بين فخذي وانطلقت السيارة في الشوارع الفارغة حتما في ذلك الوقت، وبعد ما يقارب الثلث ساعة وصلت إلى مكان مجهول، أخرجوني من السيارة وساقوني معصوب العينين إلى درج نزلته بمساعدتهم وأنا أتعثر وبعد دقيقة من المشي رفعت العصابة عن عيني، كنت في قبو وأمامي شخص خمسيني يقطر وجهه حقدا، كان المناوب على السجن، طلب مني بصوت جاف حاقد مصطنع إفراغ جيوبي وفتشني ومن ثم ساقني إلى الزنزانة الانفرادية في نهاية ممر طويل على جانبيه زنازين انفرادية متشابهة وفي منتصفه لمبة واحدة ضعيفة كانت مصدر الضوء الوحيد للزنازين المغلقة بباب حديدي مصمت إلا من فتحة صغيرة فيه لاستلام الطعام بها ثقوب صغيرة، كانت تغلق أحيانا أو تفتح حسب الأوامر، كانت زنزانة بعرض 80 سم وطول أقل من مترين بارتفاع سقف يصل لثلاثة أمتار، نصفها مصطبة اسمنتية بطول الزنزانة حيث أجلس وأنام ويقع المرحاض الأرضي في طرف الزنزانة حيث كان صنبور الماء “المعطوب” يتدفق بقوة دون توقف ليولد ضجيجا عاليا استمر ليومين حتى انتهى التحقيق وتبين أن ذلك كان مقصودا.
قبل اعتقالي بساعات كانت الطائرتان قد ضربتا برجي التجارة في نيويورك في نفس اليوم الذي قرر فيه وريث نظام الحكم الطائفي أن يحتفل بعيد ميلاده مع زوجته وطفله الوليد، احتفالٌ قرر فيه وبالتزامن مع ضرب برجي التجارة في نيويورك ضرب “منزلي”، تزامنٌ نادر لكنه مفهوم، فالقاعدة تضرب في نيويورك ورأس النظام يستغل انشغال العالم ويضرب حلم الحرية في سوريا وفي نفس الوقت واليوم يحتفل بعيد ميلاده بصحبة رضيعه الذي أعلنه وريثا له على رأس دولة القمع والقتل والسرقة والطائفية التي تدير “مزرعة سوريا المحتلة” التي ورثها هو عن والده الذي “اصطادها” في لحظة غفلة من الزمن، “اصطاد” سوريا و”اصطاد” شعبها النبيل (مصطلح “اصطادنا” ابتكره والدي رحمه الله)، سوريا الاستقلال التي كانت تعيش تسامحا وترفعا عن الطائفية سمح له بالتسلل مع عصابة ضباط طائفيين عام 1963 بجسد حزب البعث “اللبيس” الذي يلائم كل ثوب خسة وعهر وخيانة وطائفية.
في المعتقل توقعت أن أجد شخصا آخر معتقلا بجانبي لكن مع الأيام والسنوات تبين لي ولأصدقائي في مجموعة “ربيع دمشق”، تبين لنا لاحقا أنه لم يعتقل فقد قرر “التعاون قليلا وليس كثيرا حتى لا أظلمه” وكنت أنا أول ضحايا “تعاونه” باعتقالي الذي جاء خلال يومين من “تعاونه”، ولم يتأخر لشهرين كما تمنيت حتى أنجز وإياه بعض ما خططت له من أمور وأطلعته عليها باعتباره سيكون شريكا في تنفيذها كما تخيلت وتخيل أصدقائنا، مخططات من أجل أصدقائنا الذين سبقونا إلى المعتقل قبلها بأيام … بالمناسبة، لاحقا استطاع هذا “المناضل المتعاون قليلا” أن يشق طريقه ويلتقط رزقه من مؤتمرات سياسية ونشاط حقوق إنسان وغيرها من أساليب “يتعيش” بها البعض بتمويل من منظمات دولية وبإشراف خلفي من أجهزة المخابرات السورية، فمن لا يخضع لهذا الإشراف مصيره السجن، وبات هذا “المتعيش” بعد الثورة من وجوه المعارضة لكن الفارق أنه بات يتعيش اليوم على مئات آلاف الدولارات لمشاريع الدراسات السياسية الثورية والدستور واليوم التالي والعدالة الانتقالية وغيرها بعد أن كانت المبالغ بالآلاف، مع فارق آخر بين قبل وبعد الثورة يتمثل بعمليات الزرع والتجميل، وفي الحقيقة مهنة “التعيش” هذه ازدهرت بعد الثورة وباتت مربحة لبعض “الثوريين” الذين لم يشاركوا في مظاهرة أو أي نشاط ثوري على أرض سوريا وبعضهم ولم نر منهم حسا معارضا في حياتهم لكنهم اليوم يقودون المؤسسات التدريبية والإغاثية والتثقيفية ومؤسسات الدراسات السياسية بل يقودون المعارضة، “يتعيشون” بهدف بناء تاريخ “سياسي شخصي” يلبي الطموح السياسي المستقبلي لهم كقادة لسوريا الجديدة، بوجود النظام أو بدونه … لا فرق كما يفهمون البراغماتية السياسية وكما يحلمون، وربما “يتعيشون” أيضاً لبناء “الثروة” .. عفواً “الثورة” كما يدعون.
بعد ما يزيد عن أربع سنوات ونصف في السجن قضيت الأربع سنوات الأخيرة منها في زنزانة منفردة، أسأل نفسي كما تعودت عند كل منعطف في حياتي، هل أنا نادم؟ هل كنت لأسلك طريقا آخر؟ في الأسابيع الأربع الأولى في السجن قلت في نفسي يا ليتني لم أسلك هذا الطريق الشائك، كنت مستعداً للتراجع فقد كانت تجربة السجن الأولى وأنا الذي عشت سنواتي الأربعين أسمع قصص الاعتقال الرهيبة، لكن أربع أسابيع فقط كانت كافية لكي أتماسك وأقرر: لن أستسلم وسلاحي الوحيد لهزيمتهم هو أن أصمد وأخرج قويا وقد استفدت من كل لحظة سجن بقدر ما تسمح الظروف والأدوات المتوفرة، أن أخرج عنيداً مصراً على مطالبي وطريقي، أي “ما تربيت” كما صرحت لهم طوال فترة سجني وليلة خروجي، ساعدني في ذلك الصمود بشكل جزئي “ابن العم أبو هشام أي رياض الترك” الذي سجنت معه في الأشهر الأولى.
في السجن بدأت أفهم السياسة ودروبها، نعم قبلها ولسنوات طويلة كنت ساذجا أفكر في رفاق السياسة والعالم كما أعيش حياتي، بطهرانية ترى الجميع ملائكة، لكن ما حصل في السجن لم يكن كافيا فقد كنت بحاجة لدروس إضافية بعد خروجي من السجن ولمدة خمس سنوات قبل الثورة وسبع سنوات من عمر الثورة تعلمت فيها الكثير … تعلمت أولا كيف أرى وأحلل بعمق في السياسة لأرى الأمور بحقيقتها لا بظواهرها، وتعلمت كيف يمكن أن أحافظ على طهرانيتي السياسية لكن دون سذاجة ودون أن أتحول إلى مطية وأيضا دون أن أمتطي بدوري قضية أو رفيق قضية ومعتقل، وتعلمت كم أن ثمن هذه الطهرانية فادحا وقد يلاحقني إلى القبر وأنا أدفع الثمن سياسيا وماديا، وتعلمت أيضا كم أن القرار المستقل بدون تبعية مكلف بنفس القدر … لكنني مع كل ذلك لست نادما.
نعم لست نادما على طريقي ولو عادت بي الأيام لسلكته، لكن خيبة الأمل والغدر هو الثمن الذي حز في نفسي، لم أرى في حياتي التي تجاوزت النصف قرن؛ لم أرى قدراً من الجحود والنذالة والخسة والانتهازية والتسلق ونكران الجميل كما رأيت طوال سبعة عشر عاماً منذ ضربت القاعدة البرجين وضرب الوريث منزلي، لكن الخيبة الأكثر مرارة كانت خاصة في سنوات الثورة، وبشكل خاص ممن يفترض أن يكونوا عونا في دروب السياسة، لا لفضل لي على أي منهم (ولي فضل والله شاهد)، ولا لمصلحة شخصية لي (وهو ما لم أطلبه يوماً)، بل من أجل قضية سياسية جمعتنا، قضية حياتنا التي جسدتها الثورة السورية وما سبقها من إرهاصات بعد خروجنا من السجن عندما كنا نقاتل وحيدين مع بضع عشرات من مجانين الحرية، حرية سوريا وحرية السوريين التي دخلنا السجون من أجلها.
نعم الغدر ونكران الجميل والخسة والانتهازية التي وصلت إلى حد الدوس على ثورة الحرية من أجل المصالح والطموحات السياسية الشخصية التي باتت أولوية على الثورة، فتغيرت الأولويات والتحالفات وباتت ورقة تُسْتَخْدَمُ في كل مكان ومناسبة بصفة مختلفة حسب ما تقتضي هذه المصلحة الانتهازية، مثل “جوكر” ورق اللعب في لعبة قمار بجانب كأس كحول في غرفة مشبوهة تغطيها سحب دخان السجائر … نعم لست نادما على طريقي ولو عادت بي الأيام لسلكته مع كل الأثمان التي دفعتها، إلا ثمن واحد يصيبني بالغضب لسذاجة سياسية لم تغادرني إلا بعد أن دفعته، لا لأني دفعته إلى جانب أثمان أخرى فادحة في مواجهة النظام بل لأني دفعته بطهرانية سياسية لم تكن في محلها إلى جانب من لا يستحق، ولا يفارقني بيت شعر زهير بن أبي سلمى “ومن يصنع المعروف في غير أهله … يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم”.
أشعر بغضب شديد أيضا لأنني أرى نفسي مقيدا ضعيفا بعد أن توالت الطعنات في الحرب الشرسة وجُرِّدْتُ من إمكانية تقديم الكثير من أجل ثورة الحرية السورية … غاضب عندما أرى أن هناك الكثير مما كان يمكنني فعله لتخفيف الدم والمعاناة وتقصير زمنها والمساهمة في الخلاص من الفوضى العسكرية والسياسية التي تعيشها الثورة لكني عاجز عن الفعل بعد أن جُرِّدْتُ من معظم أدوات الفعل والتأثير … لكنني أيضا اليوم كما في كل مرة استعرضت فيها مجريات حياتي لا زلت أؤمن أن الله عز وجل كان يقف معي وساعدني في اختيار كل منعطف في حياتي لخير ينتظرني في الدنيا قبل الآخرة، هكذا شعرت في السجن عندما كنت أسجد من وقت لآخر شكرا لله على نعمة السجن التي رأيت في جانب منها هبة من الله لا نقمة منه، وكذلك كان الله معي في كل ما جرى معي لاحقا، لكنني أردد دائما الدعاء الأثير على قلبي الذي ردده رسولنا محمد (ص) في أيام الشدة “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، ألهم إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي”، أردده بينما أرى كل يوم كيف يتحول هذا الهوان على الناس إلى كرامة.
فواز تللو – برلين – ألمانيا 11/09/2018
Admiring the time and effort you put into your blog and detailed information you
provide. It’s great to come across a blog every once in a while that
isn’t the same unwanted rehashed information. Fantastic
read! I’ve bookmarked your site and I’m including your RSS feeds to my Google account. http://itccjo.com/node/110134
Admiring the time and effort you put into your blog and detailed information you provide.
It’s great to come across a blog every once in a while that isn’t the same unwanted rehashed information. Fantastic read!
I’ve bookmarked your site and I’m including your RSS feeds to my
Google account. http://itccjo.com/node/110134