روح الثورة وَلَّادَة لا تموت

الثورة ليست خطاً بيانيا صاعداً باستمرار، ليست انتصارات عسكرية دائمة، ليست نجاحات متتالية في كل مجالاتها المدنية، ولو كانت تنتهي بانتكاسة هنا أو حتى هزيمة كبيرة هناك، أو تفقد معناها إن فقدت “طهرانيتها الأفلاطونية” أو ارتكبت بعض الأخطاء لما استمرت ثورة عبر التاريخ ولما وجدنا في التاريخ من يستحق اسم “ثورة” ولبقي المصطلح فكرة طوباوية كالأساطير التي وحتى إن تضمنت قيماً لا تستحق الوقوف عندها وتحليلها ليُبنى عليها الكثير من المدارس ويتم إسقاطها على كثير من الواقع بهدف تغيير المستقبل.
أيضاً، الثورة ليست بأعلى معانيها فعلاً “إصلاحياً” يقبل التسويات مع الواقع، وبقدر ابتعادها عن جوهرها كفعل تغييري جذري، تبتعد عن مفهومها كـ “ثورة”، لكن الثورة تقبل وتتقن استخدام أدوات عديدة سياسية وعسكرية، فقد تقبل التفاوض مع العدو، وقد تضطرها الظروف لهدنة بحجم نصف هزيمة، لكن ليس على حساب أهدافها، لأنها عندما تفعل تفقد أصلاً معنى فعلها المناور لتغدو استسلاماً.
أيضاً، الثورة ليست فعلاً مجرداً من الأشخاص، ليست آلة، ليست ثمرة نقطفها من شجرة، “الثورة” هي أولاً وأخيراً “جسد” من حاضنة شعبية تواقة للحرية عاجزة عن المبادرة، لكن تدب بها الحياة عندما تجد روحها الذين هم بدورهم افراداً لكنهم النخبة، هم “روح الثورة”؛ يحلمون بها، يضعون لها أهدافاً ويعملون لها، يفكرون في كيفية إطلاقها، ثم يطلقونها في المجالات المدنية والعسكرية حيث احتاج الأمر وهم يراكمون الدروس بعد كل انتكاسة أو انتصار، يقاتلون أو يهادنون، يربحون أرضاً أو يخسروها، يربحون معركة ويخسرون أخرى، يحققون النجاحات ثم يتوازن العدو فيصيبهم بانتكاسة، لكنهم يعيدون ترتيب أوراقهم؛ يعيدون قراءة الماضي، يراجعون أخطائهم واصطفافاتهم وتحالفاتهم وحتى أصدقائهم، يعيدون قراءة محيط ثورتهم السياسي الاقليمي والدولي منتظرين متغيرات يستعدون لها، ثم يضعون استراتيجيات جديدة ويتابعون الثورة، فتستمر الثورة بهم ما داموا موجودين، فهم “روح الثورة” التي لا يكون جسدها المتمثل بحاضنتها الشعبية حياً إلا بهم، لكن لننتبه: هم ليسوا ملائكة وغالباً ما يخطئون، لكنهم يتعلمون، يتساقط بعضهم على الطريق بسبب التعب أو المغريات الطارئة، في ذلك خير ليبقى الراسخون في الثورة، ليبقى فقط من يستحق أن يكونوا “روح الثورة” الذين يستحقون النصر.
العدو يعرف ذلك، يعرف ما تعنيه روح الثورة قبل جسدها، لذلك حرص منذ البداية على الاعتقال دون إطلاق سراح أحد تقريباً في قرار اتخذه منذ الشهر الثالث للثورة عندما حسم أمره بسحق الثورة أمنياً ثم عسكريا دون أي تنازلات … بداية الأمر كانت بداية أول “رمضان” للثورة تموز 2011 يوم كان عدد المعتقلين لديه مائة ألف (في معلومات مسربة من ضابط أمن كبير)، يومها مثل اجتياح حماه أول إرهاصات هذه السياسة، ليتزايد عدد المعتقلين ويصل خلال عام ونصف إلى نصف مليون معتقل وربما ثلاثة أرباع مليون، فإحصاء الموت والاعتقال بات مستحيلاً، لكنه حرص على تصفية غالبيتهم لقتل كل من حمل أو مثل “روح الثورة” بينهم، فقد كان يدرك أن الثورة هي هذه النخبة التي قد لا يكشفها التحقيق الوحشي فتضيع في زحمة المعتقلين، فهذه النخبة هم روح جسد الثورة، وبتصفيتهم تنتهي الثورة ويبقى جسدها المتمثل في حاضنة شعبية مستعدة للتضحية لكن إن توفرت لها روح تقودها، وتتعب وتستسلم وتخرج من الثورة بدونها.
من نجى من الاعتقال من هذه النخبة لجأ للمناطق المحررة ومنهم من دخل حصاره فيها طواعية، ومنهم من خرج من سوريا … لكنهم جميعاً استمروا في مواقعهم كناشطين مدنيين أو مقاتلين، ومع انهم باتوا أقلية لكنهم كانوا الشوكة “الاستراتيجية” المتبقية في حلق العدو التي أبقت الثورة مستمرة، كانوا “بركة الثورة”، ليس بالمعنى الصوفي السلبي بل بالمعنى الإيجابي الذي يعني الخير، فقد حافظوا على روح الثورة في أي موقع كانوا، عسكريا أم مدنياً، خلف بندقية أو كاميرا، طبياً أو إغاثياً ولو بقصيدة او أنشودة أو أو أو … في مبادرات لم تنتهي، مبادراتٍ حملت جسد الثورة أي حاضنتها الشعبية على الصمود والتحمل والاستمرار لسبع سنوات نالها فيها من المعاناة ما كانت لتخر امامه دول مستقرة وشعوب متخمة بالموارد، حاضنة صبرت على الحصار والجوع والقصف والتدمير والتهجير، دفعت كل شيء ملكته من مال ونفس واستقرار بنفس راضية تنتظر النصر، يدفعها لذلك تلك النخبة “روح الثورة”؛ من استشهد منها في المعتقلات أو ساحات العمل أو من نجى وتابع من موقعه.
في لحظات الانتكاسات الكبيرة يزداد الثمن والمعاناة لتصل إلى حدود هائلة لم تكن بحسبان أكبر المتشائمين، يكثر الضغط من كل الجهات … من الأعداء والمتآمرين والحلفاء المتخاذلين بعد أن تتغير أهدافهم ومصالحهم، من العائلة والمحيط الاجتماعي ومن داخل النفس المتعبة التواقة للسكينة في صراع طويل لا يلوح فيه ضوء في نهاية النفق، يتعب جسد الثورة/حاضنتها الشعبية بينما تعيث فيها البروباغاندا الإعلامية للعدو وحلفائه تحبيطاً وتخذيلاً في رسالة خبيثة تقول “كنتم عايشين … فانظروا ما فعلت بكم أحلامكم وثورتكم وفرسانها”، وتتابع الرسالة الخبيثة فعلها لتدفع كثيرين للبحث عن خلاصٍ فرديٍ يدفن أحلام الثورة الجماعية في الحرية والكرامة بالتراب، ويعمل العدو على تعزيز الهزيمة الداخلية بكل وسيلة ممكنة عبر إعلان انتصار نهائي في معركة لم تنتهي بعد مستعجلاً الهزيمة الداخلية، وينجح في ذلك جزئياً فتبدأ المناطق الصامدة المحاصرة الصامدة بإعجاز بالتساقط من الداخل قبل فعل العمل العسكري الخارجي، وكلما سقطت منطقة يحرص العدو على إعادة كل مظاهر سيادته، لا كدولة تعيد مرافق الحياة وتنشر الرفاهية لمن بقي بعد تهجير وحصار وحشي كان ورائها من يدعي تحرير هؤلاء، بل سيادة يفهمها كأساس لنظامه متمثلة بإذلاله المتعمد لمن بقي منهم بعد الحصار أو من قد يفكر بالعودة، مكرساً مظاهر إعلان استسلام مذلٍ غير مشروط على الجميع، معيداً كل مظاهر الإذلال السابقة لكن بجرعات أكبر بكثير وشكل فج مقصود، مضمونها بان على المستسلم المتعب الركوع علناً أمام قاتله معلناً خضوعه، مقبلاً اليد التي قتلته ودمرت ماضيه ومستقبله، تصل إلى أخس مراحلها بأن تفرض عليه الهتاف بحياة القاتل لحظة الاستسلام مقابل شربة ماء، لتنتهي بخطيب جمعة يقول للمستسلمين وسط الخراب “هو من عند أنفسكم فادعوا بالتوفيق لمن استخدمه الله لجازيكم بما حلمتم، فارفعوا صوره وقبلوا يد كل مجرم من هؤلاء سرق أثاثكم واغتصب نسائكم وقتل أولادكم امام أعينكم”، ليتعرى العالم من إنسانيته وهو يراقب المشهد في استعراض إباحي ينزع فيه أوراق التوت بوقاحة “براغماتية” تخفي وراءها كل أحقاد التاريخ.
فقط الراسخون في الثورة؛ “روح الثورة” هم من يقفون بالمرصاد للعدو، هم من يعطون الأمل ويشدون الهمم، هم من سيتابعون ويعلنون استمرار المعركة وزيف انتصار العدو، وهم فقط الخطر الأكبر على العدو، وأيضاً هم الخطر الأكبر على من تسلق الثورة فاسداً أو افسدته أوهام سلطة سياسية أو عسكرية فتحول مرتزقاً سياسياً أو ميليشياوياً، وهم الخطر الأكبر على كل جسم غريب سرطاني دخل جسم الثورة مستغلاً فوضى الساحة، من متطرفين قاعديين، ومرتزقة انفصاليين، ولصوص ومعفشين، هم الخطر الأكبر على احتلالٍ أمريكي وروسي وإيراني، وهم العدو غير المعلن لكل الجهات الإقليمية والدولية الحاقدة على كلمتي “ثورة وحرية” والتي تتنتزع جسد سوريا الطاهر وأهلها الطيبيبن الأحرار ، ليتفق ضمناً كل هؤلاء الأعداء ومعهم بعض الحلفاء الطارئين، والذين قد يتصارعون في سوريا لكنهم يتفقون بل يتحالفون على هدف مشترك واحد : الخلاص من هذه النخبة؛ من “روح الثورة”ً.
أعرفتم على ماذا اتفق طيف الاعداء المعلنين والحلفاء المزيفين وما بينهما من أقنعتهم ومرتزقتهم … هل تذكرون “عبد القادر الصالح” ومقطع الفيديو الشهير حين وصف الحلفاء المفترضين قبل الخصوم المقنعين و الأعداء المعلنين قائلاً: “كلهم بدهن يربوا شعوبهم بنا وهم يمنعون عنا أي إمداد عسكري”، يومها قتلته تتمة جملته: “لكن بدأنا بالبومباكشين ضرب بيطلع وضرب ما بيطلع، ومثل ما بدأنا سنتابع وننتصر”.
أعرفتم لماذا لا زال “يحيى شربجي” في سجونهم، ولماذا اعتقلوا عمرو وقتلوا مجد وأنس وعمار وعبد الرحمن وقتيبة، ولماذا حاولوا اغتيال “هادي العبدالله”، ولماذا صفوا مئات القيادات العسكرية والمدنية في بلاد الثورة المحررة، ولماذا حاصروا وهمشوا بشار ومئات مثله، أعرفتم ماذا خسرنا برحيل سيفو واستشهاد أبو مرشد بالأمس وأحمد اليوم قبيل تهجير الغوطة … هل تذكرون أيقونة الثورة ولؤلؤة تاجها “داريا” التي رفرفت فيها روح الثورة منذ اليوم الأول مع “يحيى شربجي” ورفاقه، ومن ثم مع لواء شهداء داريا وقائده يومها النقيب سعيد نقرش / أبو جمال، ذلك المسلم الخلوق المتنور الهادئ الرزين، وكذلك الراسخ الصامد مع ثلته بإعجاز أسطوري ربما نافستهم به فقط الغوطة الشرقية، ذلك الذي استنجد بالجميع أيام حصاره فخذله الجميع وعلى رأسهم ذلك الخبث الذي يمسك اليوم بأبي جمال سعيد نقرش متهماً إياه بالخيانة، ويقبض على إدلب من خناقها ويعيث فيها وفي الثورة فساداً واغتيالاً وطعنا في الوجه والظهر ومن حوله من يحالفونه أو يقاتلونه لكنهم في الحالين باتوا أشبه بقطاع طرق.
القائمة طويلة جداً … عشرات آلاف الشهداء والمعتقلين على الأقل كانوا هذه النخبة، من ذكرتهم كانوا مثالاً يقرب معنى “روح الثورة” التي تتمثل بأفراد يمثل وجودهم وغيابهم الفرق بين النصر والهزيمة، بين الفوضى والرؤية، بين صواب البوصلة وانحرافها، لذلك حرص كل طيف الأعداء على إنهائهم؛ قتلاً أو اعتقالاً، فإن لم يكن فتهجيراً وتهميشاً أو تحطيماً أو إبعاداً عن كل ساحة فعل، هم “ثروة الثورة”، وخسارتهم هي أكبر ما أصاب ويصيب الثورة، خسارة أكبر بكثير من خسارة الأرض التي تُستًعاد لكنهم لا يعودون، هم وقبل أي شيء آخر، من علينا الشعور بالخطر على ثورتنا كلما غادرنا واحد منهم شهيداً أو حجبته المعتقلات والمنافي أو غيبه الموت أو أبعده اليأس أو ضاعت بوصلته، فضياع بوصلة عبد الباسط ساروت (وقد عاد اليوم إلى خط الثورة)، ومحاولة اغتيال هادي العبد الله وخطف سعيد نقرش هو خسارتنا الأكبر من الأرض.
الثورة تمر بمرحلة صعبة، لكنها تتعلم الدروس بأغلى الأثمان، وعلى طريق استعادة المبادرة بإذن الله على يد من تبقى من “روح الثورة”، نستذكر مشهدين: الأول قبل ست سنوات والثورة في اوج انتصاراتها لشاب بسيط من ذوي الاحتياجات العقلية الخاصة (فأنا لا أحبذ استخدام كلمة معاق) يطلب منه أفراد ميليشيا النظام الأسدي الهتاف لسيدهم ليرد عليهم بإصرار ولمرات بشكل عفوي فطري “لا” … أما المشهد الثاني اليوم والثورة في أوج أزمتها فلطفلةٍ من الغوطة الشرقية ولدت زمن الحصار وعاشت عمرها القصير فيه لا تعرف غيره ومعاناته، يوم خروجها مع أهلها عند سقوط الغوطة وبينما كان أفراد ميليشيا النظام يطلبون من المغادرين ترديد شعار الذل بالخضوع لسيدهم مقابل شربة ماء ولقمة طعام بعد جوع لأشهر وحصار وحرمان لسنوات، ومع هلع والدها المتعب المستسلم وإصراره عليها إذا بهذه الطفلة ترد بإصرار “لا” … وكأني بها تقول كما قال عشرات آلاف نخبة الطيبين الذين سبقوا، ورفاقهم المتابعين على الدرب بإصرار وثقة، كأني بها تقول لنا “روح الثورة لا تموت … روح الثورة ولادة”.
بالتوفيق